تحليل منهجي لنموذج من شعر تجديد الرؤيا ( قصيدة "سربروس في بابل" لبدر شاكر السياب) .
( القصيدة في نهاية المنشور)
- نشر هذا المقال في العدد السابع من مجلة مشارف مقدسية..
-إنجاز: ذ. سعيد بكور
تجديدُ الرؤيا بين رهان التجديد ومنزلق التجريد:عمل شعر تكسير البنية على خرق الإيقاع الخليلي، وهدم صرح بنية القصيدة القديمة التي عمرت ردحا طويلا من الزمن، حيث تم تعويض الشكل القديم بشكل جديد يعبر عن تموجات الشاعر النفسية وعن تجاربه الحياتية والواقعية بكثير من الحرية والانطلاق الفكري والشعوري، ولم يقف تطور الشعر العربي عند ما قام به شعراء تكسير البنية بل واصل حركيته ليثمر ما سمي بشعر الرؤيا، الذي أعاد تشكيل الواقع عبر الرمز والأسطورة، وانطلق بالشّعر الحديث في آفاق الرَّمزية المُغْرِقة في التّجريد، وابتعد به عن الواقع ليُلامس تُخُومَ الحُلم، ويستشرفَ الغدَ والمستقبلَ، ويشرئِبَّ للآتي والمقبِل، ويتطلع إلى عالم ممكن يتجاوز الواقع الكائن.
والرؤيا في أبسط تعاريفها الحلمُ واستشرافُ المستقبل، وشعر الرؤيا ، بهذا، تصوُّرٌ جديدٌ للواقع يرُومُ تغييرَ المفاهيم السائدة ونظام الأشياء، أي إنَّه استكشافٌ واستشرافٌ للمستقبل، وهو أيضا تطلُّع إلى عالم ممكن وتعالٍ عن واقعٍ كائنٍ، كما أنَّه موقف من الواقع مبني على الإدراك العميق للأشياء.
لقد تغير مفهوم الإبداع لدى شعراء هذا التيّار ومنظّريه، خاصة أدونيس وخالدة سعيد، ومن لفّ لفّهم، بأن صار "رفضا للتقليد والشكل الثابت واللغة الجاهزة، أو الوعاء الباحث عمّن يملأه، أي أن الإبداع إنّما هو بداية وانقطاع عن واقع قائم وطموح إلى واقع غير محقق ... إنّه ليس سوى توتّر بين راهِنٍ ومحتملٍ نبين قديم للّغة فيه طبيعة الوصف وإعادة إنتاج ما هو موجود ، وبين جديدٍ مَهَمَّةُ اللغة فيه هي الكشف الذي يعني تجاوزَ المثال المحقَّقِ ، بابتكار مثال ما يلبَثُ أن يُنقض لأنَّ كل متحقِّق يصبح منطلقا وكل إبداع إنّما هو صيرورة دائمة أي تجريب دائم .
ولا مِراء في أنّ النظر إلى الإبداع على أنّه صيرورة دائمة وتجريب دائم، فتَح شعرَهم على عوالم الإبهام والتجريد والإحالة والتّعمية، فلم يعودوا يهتمون بالمتلقّي الذي يفترض أن يكون هدفهم .
ومن التسميات التي التصقت بتيار تجديد الرؤيا، ما يمكن الاصطلاح عليه بتيار التجريد "الذي تكاد تستغرقه دعوة التّجاوز الميتافزيقي والصوفي، وهو تيّار مثقَل بالخبرات الثقافية المجرّدة أكثر من الخبرات الإنسانية الحيّة، يهتمّ اهتماما بالغا بالتفجيرات الشكلية، يتخلى تمام في أغلب الأحيان-وبخاصة في المرحلة الأخيرة-عن الأوزان التقليدية وحتّى عن التفعيلة الواحدة، فضلا عن القافية، ويتبنَّى ما يسمى بقصيدة النثر ويدعو إلى القطيعة مع الذاكرة الشعرية التراثية، وتصبح قضيّته الأساسية هي المغامرة التعبيرية باللغة وفي اللغة..." .
ويقوم شعر الرُّؤيا -في العموم- على الكشف والتّوليد والخَلْق ، يعبِّر عن الواقع بلغة غير مألوفة ، لغة تقوم على التَّثوير والانفجار والهدم والانتهاك ، وتقف ضد الاعتيادي والمألوف والمتداول والجاهز . وهو إلى جانب ذلك يغوصُ في الأشياء إلى العمق ويعبّر عن الواقع عن طريق ما يسمى بالرَّمز والأسطورة واللغة المُثقلة بالمجاز ، حيث استعاض بذلكَ عن أساليب التَّصوير القديمة من استعارة وتشبيه وكناية.
وقد برع شعراء كثر في هذه المدرسة الشعرية نذكر منهم: البياتي، وأدونيس، ويوسف الخال، وأمل دنقل، وبدر شاكر السياب الذي يعد من رواد قصيدة الرؤيا، إذ يعبّر شعره عن تجربة إنسانية ترمز إلى الحياة البشرية، مرّت حياته الفنية بأربع مراحل هي: المرحلة الرومانسية، والمرحلة الواقعية، والمرحلة القومية، والمرحلة الوجودية، وقد خلف جملة من الدواوين أشهرها "أنشودة المطر".
لم يكن السيّاب من الذين استغرقتهم دعوة التجريد والخروج على المألوف، بشكلٍ يبعد قصائده عن التعبير عن الواقع والنفس والإنسان، فقد كان حريصا على أن يكثّف من حضور الأساطير والرموز في قصائده، لكنه كان لا يلجأ إلى صبّها في أتون النص إلا إذا كانت معبّرة عن التجربة ومضيفة لها، فقد كان توظيفه لها نوعيا في الدرجة الأولى، ويمكن أن نتبيّن ذلك في عدد من قصائده؛ على رأسها قصيدته قيد الدراسة (سربروس في بابل) التي يستدعي فيها أسطورة سربورس وأسطورة تموز وعشتار، ويضمّن أسطورة إيزيس وأوزوريس، ناهيك عن عدد من الرموز، ليعبر عن واقع العراق (أو بابل)، وهكذا تتحول القصيدة إلى معترك أسطوري، أبطاله وأمكنته وأزمنته وأحداثه كلها أسطورية، ويكون بذلك قد ابتعد عن المباشرية في التعبير عن واقع العراق، فسربروس في الواقع الأسطوري ليس إلا عبد الكريم قاسم في الواقع الحقيقي، وبابل هي نفسها العراق، وتموز يغدو رمزا لمن يستطيع انتشال العراق من العقم وواقع الدمار، هكذا تصير الأسطورة والرمز فاعلين في إغناء دلالات القصيدة وانفتاحها على عوالم لا متناهية من الإشارات المتناسلة الدالّة غير المنفصلة عن الواقع.
المحور الدلالي:جاء عنوان النص مركبا اسميا مكونا من مبتدأ " سربروس " وخبر " في بابل" نقدره بمستقر أو كائن، ومن الناحية الدلالية فسربروس هو ذاك الكلب الأسطوري ذو الثلاثة رؤوس الذي ينفث السم وله ذيل تنين يحرس مملكة الموت، وهو رمز للموت والدمار، أما بابل فهي رمز للعراق الذي يعاني، وهكذا نفهم أن العنوان يحيل على حجم الدمار والخراب والموت والعقم والشر الذي حل ببابل بسبب سربروس الذي ليس إلا "عبد الكريم قاسم " الذي أذاق العراق ما أذاقها من صنوف الدمار.
يعبر الشاعر في قصيدته عما حل بالعراق من دمار وخراب كبيرين، وما أصابه من عقم ومجاعة، معبرا عن توقه إلى أن يتخلص من ألمه، ويولد غد جديد لا دم فيه ولا مشانق ولا مقابر.
هكذا بدأ الشاعر قصيدته بإبراز مظاهر الدمار الذي ألحقه سربروس ببابل، حيث عاث في الأرض فسادا وأهلك الحرث والنسل، وأتى على الأخضر واليابس، وزرع الرعب في النفوس نظرا لوحشيته وصوته المرعب ومنظره المخيف، ولا يكتفي سربورس بكل ما سبق، بل يسعى إلى أن يقتل أي رغبة في الحياة، حيث يعمل جاهدا على القضاء على تموز رمز الحياة ومقاومة الموت، وفي أثناء ذلك يتمنى الشاعر عودة تموز الذي بأوبته سيعود الخصب والعطاء والحياة، وهنا يكشف الشاعر عن مقدار العقم الذي أصاب العراق، حيث لا ثمر ولا زرع ولا ضرع ولا ماء، فقط دم وحبال وحفر، وتنتهي القصيدة بمشهد عشتار وهي تحاول جاهدة لملمة أشلاء تموز المتناثرة أملا في أن تعود إليه الحياة ويعود الخصب إلى العراق، لكن سربروس يحاول جاهدا منعها فتكون ضحيته التالية، وهكذا أضاف إلى الدم القديم دما جديدا، ظانا أنه انتصر، بيد أنّ دماء عشتروت هي التي ستخصب الحبوب وستنبت تموز الذي عادت إليه الحياة من جديد وبعودته سيولد الضياء.
عبر الشاعر في هاته القصيدة عن واقع العراق المدمر، وتطلع إلى مستقبل كله ضياء وخصب، واستثمر في ذلك مجموعة من الأساطير التي تُعبر عن الصراع بين الموت والحياة، والشر والخير، وبناءً عليه استطاع الشاعر أن يجدد في مضامينه وأن يعبر عن رؤياه للواقع.
والرؤيا في أبسط تعاريفها الحلمُ واستشرافُ المستقبل، وشعر الرؤيا ، بهذا، تصوُّرٌ جديدٌ للواقع يرُومُ تغييرَ المفاهيم السائدة ونظام الأشياء، أي إنَّه استكشافٌ واستشرافٌ للمستقبل، وهو أيضا تطلُّع إلى عالم ممكن وتعالٍ عن واقعٍ كائنٍ، كما أنَّه موقف من الواقع مبني على الإدراك العميق للأشياء.
لقد تغير مفهوم الإبداع لدى شعراء هذا التيّار ومنظّريه، خاصة أدونيس وخالدة سعيد، ومن لفّ لفّهم، بأن صار "رفضا للتقليد والشكل الثابت واللغة الجاهزة، أو الوعاء الباحث عمّن يملأه، أي أن الإبداع إنّما هو بداية وانقطاع عن واقع قائم وطموح إلى واقع غير محقق ... إنّه ليس سوى توتّر بين راهِنٍ ومحتملٍ نبين قديم للّغة فيه طبيعة الوصف وإعادة إنتاج ما هو موجود ، وبين جديدٍ مَهَمَّةُ اللغة فيه هي الكشف الذي يعني تجاوزَ المثال المحقَّقِ ، بابتكار مثال ما يلبَثُ أن يُنقض لأنَّ كل متحقِّق يصبح منطلقا وكل إبداع إنّما هو صيرورة دائمة أي تجريب دائم .
ولا مِراء في أنّ النظر إلى الإبداع على أنّه صيرورة دائمة وتجريب دائم، فتَح شعرَهم على عوالم الإبهام والتجريد والإحالة والتّعمية، فلم يعودوا يهتمون بالمتلقّي الذي يفترض أن يكون هدفهم .
ومن التسميات التي التصقت بتيار تجديد الرؤيا، ما يمكن الاصطلاح عليه بتيار التجريد "الذي تكاد تستغرقه دعوة التّجاوز الميتافزيقي والصوفي، وهو تيّار مثقَل بالخبرات الثقافية المجرّدة أكثر من الخبرات الإنسانية الحيّة، يهتمّ اهتماما بالغا بالتفجيرات الشكلية، يتخلى تمام في أغلب الأحيان-وبخاصة في المرحلة الأخيرة-عن الأوزان التقليدية وحتّى عن التفعيلة الواحدة، فضلا عن القافية، ويتبنَّى ما يسمى بقصيدة النثر ويدعو إلى القطيعة مع الذاكرة الشعرية التراثية، وتصبح قضيّته الأساسية هي المغامرة التعبيرية باللغة وفي اللغة..." .
ويقوم شعر الرُّؤيا -في العموم- على الكشف والتّوليد والخَلْق ، يعبِّر عن الواقع بلغة غير مألوفة ، لغة تقوم على التَّثوير والانفجار والهدم والانتهاك ، وتقف ضد الاعتيادي والمألوف والمتداول والجاهز . وهو إلى جانب ذلك يغوصُ في الأشياء إلى العمق ويعبّر عن الواقع عن طريق ما يسمى بالرَّمز والأسطورة واللغة المُثقلة بالمجاز ، حيث استعاض بذلكَ عن أساليب التَّصوير القديمة من استعارة وتشبيه وكناية.
وقد برع شعراء كثر في هذه المدرسة الشعرية نذكر منهم: البياتي، وأدونيس، ويوسف الخال، وأمل دنقل، وبدر شاكر السياب الذي يعد من رواد قصيدة الرؤيا، إذ يعبّر شعره عن تجربة إنسانية ترمز إلى الحياة البشرية، مرّت حياته الفنية بأربع مراحل هي: المرحلة الرومانسية، والمرحلة الواقعية، والمرحلة القومية، والمرحلة الوجودية، وقد خلف جملة من الدواوين أشهرها "أنشودة المطر".
لم يكن السيّاب من الذين استغرقتهم دعوة التجريد والخروج على المألوف، بشكلٍ يبعد قصائده عن التعبير عن الواقع والنفس والإنسان، فقد كان حريصا على أن يكثّف من حضور الأساطير والرموز في قصائده، لكنه كان لا يلجأ إلى صبّها في أتون النص إلا إذا كانت معبّرة عن التجربة ومضيفة لها، فقد كان توظيفه لها نوعيا في الدرجة الأولى، ويمكن أن نتبيّن ذلك في عدد من قصائده؛ على رأسها قصيدته قيد الدراسة (سربروس في بابل) التي يستدعي فيها أسطورة سربورس وأسطورة تموز وعشتار، ويضمّن أسطورة إيزيس وأوزوريس، ناهيك عن عدد من الرموز، ليعبر عن واقع العراق (أو بابل)، وهكذا تتحول القصيدة إلى معترك أسطوري، أبطاله وأمكنته وأزمنته وأحداثه كلها أسطورية، ويكون بذلك قد ابتعد عن المباشرية في التعبير عن واقع العراق، فسربروس في الواقع الأسطوري ليس إلا عبد الكريم قاسم في الواقع الحقيقي، وبابل هي نفسها العراق، وتموز يغدو رمزا لمن يستطيع انتشال العراق من العقم وواقع الدمار، هكذا تصير الأسطورة والرمز فاعلين في إغناء دلالات القصيدة وانفتاحها على عوالم لا متناهية من الإشارات المتناسلة الدالّة غير المنفصلة عن الواقع.
المحور الدلالي:جاء عنوان النص مركبا اسميا مكونا من مبتدأ " سربروس " وخبر " في بابل" نقدره بمستقر أو كائن، ومن الناحية الدلالية فسربروس هو ذاك الكلب الأسطوري ذو الثلاثة رؤوس الذي ينفث السم وله ذيل تنين يحرس مملكة الموت، وهو رمز للموت والدمار، أما بابل فهي رمز للعراق الذي يعاني، وهكذا نفهم أن العنوان يحيل على حجم الدمار والخراب والموت والعقم والشر الذي حل ببابل بسبب سربروس الذي ليس إلا "عبد الكريم قاسم " الذي أذاق العراق ما أذاقها من صنوف الدمار.
يعبر الشاعر في قصيدته عما حل بالعراق من دمار وخراب كبيرين، وما أصابه من عقم ومجاعة، معبرا عن توقه إلى أن يتخلص من ألمه، ويولد غد جديد لا دم فيه ولا مشانق ولا مقابر.
هكذا بدأ الشاعر قصيدته بإبراز مظاهر الدمار الذي ألحقه سربروس ببابل، حيث عاث في الأرض فسادا وأهلك الحرث والنسل، وأتى على الأخضر واليابس، وزرع الرعب في النفوس نظرا لوحشيته وصوته المرعب ومنظره المخيف، ولا يكتفي سربورس بكل ما سبق، بل يسعى إلى أن يقتل أي رغبة في الحياة، حيث يعمل جاهدا على القضاء على تموز رمز الحياة ومقاومة الموت، وفي أثناء ذلك يتمنى الشاعر عودة تموز الذي بأوبته سيعود الخصب والعطاء والحياة، وهنا يكشف الشاعر عن مقدار العقم الذي أصاب العراق، حيث لا ثمر ولا زرع ولا ضرع ولا ماء، فقط دم وحبال وحفر، وتنتهي القصيدة بمشهد عشتار وهي تحاول جاهدة لملمة أشلاء تموز المتناثرة أملا في أن تعود إليه الحياة ويعود الخصب إلى العراق، لكن سربروس يحاول جاهدا منعها فتكون ضحيته التالية، وهكذا أضاف إلى الدم القديم دما جديدا، ظانا أنه انتصر، بيد أنّ دماء عشتروت هي التي ستخصب الحبوب وستنبت تموز الذي عادت إليه الحياة من جديد وبعودته سيولد الضياء.
عبر الشاعر في هاته القصيدة عن واقع العراق المدمر، وتطلع إلى مستقبل كله ضياء وخصب، واستثمر في ذلك مجموعة من الأساطير التي تُعبر عن الصراع بين الموت والحياة، والشر والخير، وبناءً عليه استطاع الشاعر أن يجدد في مضامينه وأن يعبر عن رؤياه للواقع.
محور التّشكيل الفني:تعبر القصيدة في عمقها عن صراع دموي أزلي بين الخير والشر، والنور والظلام، والموت والحياة، وقد جاءت لغة النص عاكسة لهذا الصراع، وهكذا انقسم معجمها إلى حقلين دلاليين: حقل يدل على الموت وينضوي تحته ما يلي: " يمزق الصغار بالنيوب، يشرب القلوب، الردى، يمص عينه إلى القرار ينهش اليدين "؛ وحقل ثان يدل على الحياة ومن الألفاظ والعبارات الدالة عليه نذكر : "ينثر الورود والشقيق، لو يبرعم الحقول، تلمه في سلة كأنه الثمر، تململت ،سيولد الضياء ".
والملحوظ من جرد الحقلين أن كفة الحقل الدال على الموت كانت الراجحة، نظرا لأن الشاعر إنما قصد إلى إبراز مظاهر الدمار والخراب في العراق، وعليه فالعلاقة بين الحقلين قائمة تارة على الصراع أي صراع الحياة والموت، وتارة على السببية حيث إن الموت هو السبب في عودة الحياة.
جاءت ألفاظ القصيدة متسمة تارة بالجزالة والجرْس العالي، وتارة بالليونة والرقة، وهو أمر يعود إلى طبيعة ما يعبر عنه الشاعر؛ فهو عندما يعبر عن الخراب والدمار يستخـدم لغة ذات نفَس تقليـدي وجرْس عال، أما عندما يعـبر عن الحياة فإنّه يستخدم لغة ذات إيقاع هامس شفّـاف تتّسم بقدر كبير من الليـونة، وسواء كانت اللغة جزلة أم لينة، فإن الشاعر حرص على أن تكـون طافحة بالإيحاءات المشعّة، وحبلى بالدلالات الممتدّة.
وإذا اتجهنا ناحية إيقاع القصيدة، وجدنا أنها بنيت بناء هندسيا حديثا يقوم على نظام الأسطر المتفاوتة الطول، والقوافي المتنوعة وأحرف الروي المتعددة، وفيما يخص الإيقاع الخارجي فقد نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة الرجز "مستفعلن"، ووزعها توزيعا متفاوتا تبعا للدفقة الشعورية.
وفيما يتعلق بالقافية فقد جاءت تـارة مركبة وتارة متراوحة، ويعود ذلك إلى تغير الموضوع والأحـاسيس داخل القصيدة، أما حـرف الروي فقد جاء بدوره متعددا "الباء، الميم، القاف"، ويظهر من تعدد القوافي والرويات أن الشاعـر جدد في موسيقاه، وفيما الوقفة العروضية والدلالية فالظاهر أنه يلتزم بها تارة كما في قوله:
عيناه نيزكان في الظلام.
حيث تَحقق ما يسمى بالاتساق وامتلأ المعنى، وتارة لا يلتزم بالوقفة الدلالية والعروضية مما يجعله يخرج إلى التضمين:
أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراقْ
يؤج في العراق.
فقد أضاف السطر الثاني لإكمال المعنى الذي لم يتسنَّ له إتمامه في السطر السابق، ومعلوم أن التزام الوقفة أو خرقها يعـود في أصله إلى طبيعة الدفقة الشعورية، والتموجات النفسية والنسق الشعوري، وكذا إلى النَّفَس الشعري، فكلما كان النفس قويا متدفقا ممتدا طويلا احتاج الشاعر إلى التضمين، وكلما كان قصيرا اكتفى بالاتساق.
وإذا ولينا وجوهنا شطر الإيقاع الداخلي وجدناه يتميز بالغنى الناتج، أساسا، عن استخدام التوازي والتكرار، وفيما يخص التوازي حرص الشاعر على توظيفه ليعطي قصيدته الحيوية، وينقذها من الرتابة، ونجد التوازي في قوله:
أكانت الحقول تزهر ؟
أكانت السماء تمطر ؟
ويمكن تجسيد التوازي في الآتي : أ أ
كانت كانت
الحقول السماء
تزهر تمطر
والواضح أن التوازي الموظف عمودي\مقطعي، نحوي، صرفي، تام، عروضي، ولا يخفى على السماع ما أضفاه من جرس خلاب وإيقاع متحرك، كسر به الشاعر رتابة السرد المتتابع.
وفيما يخص التكرار فقد جاء متنوعا أغنى موسيقى القصيدة الداخلية، إذ نجد تكرار اللازمة " ليعو سربروس في الحروب "، وتكرار الألفاظ " تسير، السماء، ليعو، أكانت تموز " وتكرار الصوامت 'ب. م. ق. ن، ر..." إضافة إلى تكرار صوائت مثل: " السكون، الواو، الطويلة الألف الطويلة، الضمة "، ولا نغفل الإشارة إلى التكرار العروضي الذي يتجسد في تكرار أحرف الروي وترداد تفعيلة واحدة على مدار القصيدة، وبه يتّضح أن الشاعر حرص على أن ينوّع في إيقاعه الداخلي، وأن يعتمد بكثرة على التكرار الذي يهب القصيدة تنوعا موسيقيا ناتجا بالأساس عن تكرار نفس الحروف، الشيء الذي يخلق تموّجات إيقاعية مطربة.
إن الناظر في القصيدة ليصل إلى خلاصة مفادها أن الشاعر جدد فيها إيقاعيا؛ حيث بناها على نظام الأسطر، ناظما إياها على نظام التفعيلة، منوعا في القوافي وأحرف الروي، وعليه لم يقتصر التحديث في القصيدة على جانب المضمون بل شمل الإيقاع بنوعيه.
وإذا انتقلنا ناحية الصور الشعرية وجدنا الشاعر يكثر من توظيفها لوعيه بأهميتها ووظيفتها، والقصيدة في أصلها صورة مركبة من صور جزئية، ومحكومة بتيمتي الموت والحياة، وترتبط صور القصيدة تارة بسربروس، وأخرى بتموز، وثالثة بعشتار، وتارة رابعة بالعراق ، ومن هذه الصور " في بابل الحزينة "، فالملاحظ أن الشاعر يسند صفة الحزن إلى بابل مما يحدث فجـوة دلالية وتنافـرا واضحا بين المسند "الحزينة" والمسند إليه "بابل" ، وهو انزياح دلالي ساقه الشاعر ليظهر حجم الخراب والدمار الذي لحق ببابل، حتى إننا نتصورها امرأة عليها قسمات الحزن بادية، وإضافة إلى الانزياح نجد التشبيه في قوله " عيناه نيزكان في الظلام "، حيث شبه عيني سربروس بنيزكين في الظلام، ووجه الشبه شدة اللمعان وإثارة الرعب، ولا يخفى ما لهذه الصورة من وظيفة في إبراز فظاعة وقبح ووحشية هذا المخلوق الأسطوري البشع، وتحضر الكناية بشكل مكثف في السطر السابع والعشرين، في قوله: (دم ينز، أو حبال، أو حفر)؛ فالدم كناية عن القتل، والحبل كناية عن الشنق، والحفر كناية عن المقابر، وإلى جانب هذه الصور نجد توظيف الرمز، إذ إن سربروس يرمز إلى الشر والعقم والموت والخراب، وتموز يرمز للخصب والحياة والضياء والخير والمستقبل، أما القمح والثمر فهما رمزان للخصب والخير.
نلحظ مما سبق أن مجمل الصور الشعرية، باختلاف أنواعها، أدت وظيفة تعبيرية وأخرى إيحائية، حيث صورت لنا ما يعانيه العراق من آلام وويلات، ونقلت صورة قاتمة عن ما يحدث فيه، كما أسهمت في تنامي دلالات للنص وإغنائه معنويا وإعطائه بعدا تخييليا عميق الغور.
وقد اتسمت لغة النص بالشعرية والفنية واصطبغت بصبغة الجمالية، ويعود ذلك أساسا إلى القدر الكبير من الانزياحات التي توزّعت على جسد القصيدة وخريطتها الجمالية، الأمر الذي ارتقى بلغة النص من النثرية والتقريرية إلى الدرجات العلى من الشعرية، وارتباطا بشعرية اللغة يزخر النص بالإيحاء؛ فمثلا بوحي لفظ نيزكان بالرعب، كما توحي عبارة " يمص عينيه " بالوحشية، فيما توحي عبارة " ينثر الورود والشقيق " بعودة الحياة والانبعاث.
وقد تشكل عالم القصيدة من أسطورتين هما أسطورة الكلب سربروس وأسطورة تموز عشتار، وقد استلهم الشاعر هاتين الأسطورتين ليعبر عن واقعين: واقع الدمار والخراب الذي يمثله سربروس، وواقع الحياة والخصب الذي يمثله تموز وعشتار وتكمن وظيفة الأسطورتين أساسا في التعبير عن واقع العراق بطريقة رمزية غير مباشرة، وهكذا وجدنا أنّ الشاعر يحوّل بنية الواقع إلى عالم أسطوري تتصارع فيه قوى أسطورية خارقة، ومما ينبغي الإشارة إليه أنّه انزاح عن الأسطورة الأصلية ليكسبها معنىً جديدا، حيث إنه أدخل بعض التحوير على أسطورة سربروس وأسطورة تموز ليجعلهما معبّرتين عن واقع العراق؛ ففي "أسطورة سربروس" الأصلية ينبش سربروس التراب عن "برسفون" لا عن تموز كما في القصيدة:
"لينبش التراب عن إلهنا الدفين"
أما في توظيف أسطورة عشتار فقد أدخل بعض التفاصيل من أسطورة "إيزيس وأوزوريس" الفرعونية، حيث إن عشتار لم تسر في السهول والوهاد والدروب وإنما التي سارت هي إيزيس بحثا عن أوزوريس وليس عن تموز، ولعل السبب في الانزياح عن الأسطورة الأصلية يعود، في الأساس، إلى الرغبة في أن يجعلها معبرة عن التجربة والواقع، وهنا تظهر مهارة الشاعر ومعرفته بالأسطورة وتحيينها حسب الدلالة والمراد.
وفيما يخص أساليب القصيدة، زواج الشاعر بين الأسلوب الخبري ونظيره الإنشائي، وقد اعتمد على الأسلوب الخبري في سياق حديثه عن الدمار والخراب الذي خلفه سربروس، وهو ما جعله يركّز على السرد والوصف، ومن نماذجه قوله: " يمزق الصغار بالنيوب، يشرب القلوب، يمزق النعال "، أما الأسلوب الإنشائي فقد ورد أقل من نظيره الخبر ممثلا في ثلاثة أنواع، إذ نجد الاستفهام في قوله : "أكانت الحقول تزهر ؟" الذي خرج عن معناه الحقيقي ليفيد التحسر والإنكار والحنين إلى ماضٍ خِصْبٍ، والتمني كما في قوله: " أوّاه لو يفيق، لو يفجر الرعود" الذي يعبّر عن رغبة دفينة وأمل عميق في أن يعود الخصب والخير للعراق، ناهيك عن أسلوب الأمر "ليعو" الذي خرج عن معناه الحقيقي ليفيد الدعوة إلى مواصلة العواء والاستمرار فيه أملا في تحقق الأمل والانبعاث، وهنا تكمن المفارقة الصارخة، حيث يتحول الموت إلى سبب في الحياة.
تضمنت القصيدة ثلاثة أزمنة ولكل زمن رموزه التي تدل عليه، فالزمن الماضي يدل على الخصب والحياة، ومن الرموز الدالة عليه نجد: القمح والثمر والحقول، أما الزمن الحاضر فيرتبط بالدمار والخراب والعقم والجوع ومن الرموز المرتبطة به نذكر : سربروس، والدم والحبال والصغر. أما الزمن المستقبلي فيدل على الحياة والبعث، ومن الرموز المحيلة عليه نذكر: تموز، عشتار، الحبوب، الضياء، وقد مثل هذه الأزمنةَ نوعان من الأفعال: أفعال تدل على الفناء والتمزيق وترتبط أساسا بسربروس "يمزق، ينبش، يقضم"، وأفعال تحيل على الجمع والإنتاج وترتبط أساسا بعشتار" تلقط، تلمه، تجمعت، تململت، سيولد "، وتكشف هاته الأفعال بنوعيها عن الصراع الدموي الأزلي بين الخير والشر، والموت والحياة، الذي عبر عنه الشاعر باستلهام جو أسطوري مفعم بالدلالات، وما دامت الأفعال تكثر في النص فقط أعطته صبغة سردية حكائية مما جعل النص عبارة عن قصة أو حكاية.
وإذا انتقلنا ناحية البنية، وجدنا أن النص قد بُني بناء حكائيا، وتتمثل عناصره في البطل المأساوي تموز، والعامل المعاكس الذي جسّده "سربروس"، والمساعد "عشتار والراوي" الذي هو الشاعر، ويمكن أن نكشف عن حبكة النص فيما يلي:
البداية : ظهور سربروس في بابل وإحداثه الخراب فيها؛
العقدة : ظهور عشتار ومحاولتها لملمة أشلاء تموز؛
النهاية : انتظار ولادة الضياء. وهكذا جاءت نهاية الحكاية سعيدة لأنها تبشر بعودة الضياء، ومفتوحة كذلك لأنها لم تحدد المقصود بالضياء بل تركته مفتوحا ليتخيله المتلقي، وانطلاقا مما سبق نصل إلى أن النص بُني بناءً دراميا؛ أي إنه يتنامى ويتطور في أحداثه ودلالاته.
عبر الشاعر في قصيدته عن واقع العراق في فترة حكم عبد الكريم قاسم، ونقل حجم ما كان يعانيه في تلك الفترة من دمار وجوع وعقم، ولم يعبر الشاعر عن ذلك بطريقة مباشرة بل اختار أن يعبر عن بنية الواقع من خلال توظيفه للأساطير والرموز وهذا ما يميز قصيدة الرؤيا، وتتمثل مقصدية الشاعر في تأكيد تحدي الموت وانتصار الحياة وهو ما عبر عنه بولادة الضياء، وللتعبير عن هذه المقصدية وظف لغة شعرية ذات كثافة رمزية، ومعجما من حقلين يكشف عن الصراع بين الموت والحياة، إضافة إلى توظيفه أسطورتين ومجموعة من الصور الشعرية، وانطلاقا مما سبق تحليله نؤكد انتماء القصيدة إلى المرحلة القومية\التموزية من حياة الشاعر الفنية.
لقد استطاع الشاعر أن يعيد تشكيل الواقع الحقيقي عبر الرمز والأسطورة متسلّحا بعمق الرؤيا وبعد الرؤية في اللغة والإيقاع والصورة، وهو ما جعله ينزاح عن القوالب الشكلية المعهودة في التعبير، دون أن يقع في التجريد المبهِم، بل لقد ظّل محافظا على تلك الشّعرة التي تربط شعره بالواقع وتحولاته، وهو ما ضمن لشعره الالتصاق بالوجدان والذاكرة.
والملحوظ من جرد الحقلين أن كفة الحقل الدال على الموت كانت الراجحة، نظرا لأن الشاعر إنما قصد إلى إبراز مظاهر الدمار والخراب في العراق، وعليه فالعلاقة بين الحقلين قائمة تارة على الصراع أي صراع الحياة والموت، وتارة على السببية حيث إن الموت هو السبب في عودة الحياة.
جاءت ألفاظ القصيدة متسمة تارة بالجزالة والجرْس العالي، وتارة بالليونة والرقة، وهو أمر يعود إلى طبيعة ما يعبر عنه الشاعر؛ فهو عندما يعبر عن الخراب والدمار يستخـدم لغة ذات نفَس تقليـدي وجرْس عال، أما عندما يعـبر عن الحياة فإنّه يستخدم لغة ذات إيقاع هامس شفّـاف تتّسم بقدر كبير من الليـونة، وسواء كانت اللغة جزلة أم لينة، فإن الشاعر حرص على أن تكـون طافحة بالإيحاءات المشعّة، وحبلى بالدلالات الممتدّة.
وإذا اتجهنا ناحية إيقاع القصيدة، وجدنا أنها بنيت بناء هندسيا حديثا يقوم على نظام الأسطر المتفاوتة الطول، والقوافي المتنوعة وأحرف الروي المتعددة، وفيما يخص الإيقاع الخارجي فقد نظم الشاعر قصيدته على تفعيلة الرجز "مستفعلن"، ووزعها توزيعا متفاوتا تبعا للدفقة الشعورية.
وفيما يتعلق بالقافية فقد جاءت تـارة مركبة وتارة متراوحة، ويعود ذلك إلى تغير الموضوع والأحـاسيس داخل القصيدة، أما حـرف الروي فقد جاء بدوره متعددا "الباء، الميم، القاف"، ويظهر من تعدد القوافي والرويات أن الشاعـر جدد في موسيقاه، وفيما الوقفة العروضية والدلالية فالظاهر أنه يلتزم بها تارة كما في قوله:
عيناه نيزكان في الظلام.
حيث تَحقق ما يسمى بالاتساق وامتلأ المعنى، وتارة لا يلتزم بالوقفة الدلالية والعروضية مما يجعله يخرج إلى التضمين:
أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراقْ
يؤج في العراق.
فقد أضاف السطر الثاني لإكمال المعنى الذي لم يتسنَّ له إتمامه في السطر السابق، ومعلوم أن التزام الوقفة أو خرقها يعـود في أصله إلى طبيعة الدفقة الشعورية، والتموجات النفسية والنسق الشعوري، وكذا إلى النَّفَس الشعري، فكلما كان النفس قويا متدفقا ممتدا طويلا احتاج الشاعر إلى التضمين، وكلما كان قصيرا اكتفى بالاتساق.
وإذا ولينا وجوهنا شطر الإيقاع الداخلي وجدناه يتميز بالغنى الناتج، أساسا، عن استخدام التوازي والتكرار، وفيما يخص التوازي حرص الشاعر على توظيفه ليعطي قصيدته الحيوية، وينقذها من الرتابة، ونجد التوازي في قوله:
أكانت الحقول تزهر ؟
أكانت السماء تمطر ؟
ويمكن تجسيد التوازي في الآتي : أ أ
كانت كانت
الحقول السماء
تزهر تمطر
والواضح أن التوازي الموظف عمودي\مقطعي، نحوي، صرفي، تام، عروضي، ولا يخفى على السماع ما أضفاه من جرس خلاب وإيقاع متحرك، كسر به الشاعر رتابة السرد المتتابع.
وفيما يخص التكرار فقد جاء متنوعا أغنى موسيقى القصيدة الداخلية، إذ نجد تكرار اللازمة " ليعو سربروس في الحروب "، وتكرار الألفاظ " تسير، السماء، ليعو، أكانت تموز " وتكرار الصوامت 'ب. م. ق. ن، ر..." إضافة إلى تكرار صوائت مثل: " السكون، الواو، الطويلة الألف الطويلة، الضمة "، ولا نغفل الإشارة إلى التكرار العروضي الذي يتجسد في تكرار أحرف الروي وترداد تفعيلة واحدة على مدار القصيدة، وبه يتّضح أن الشاعر حرص على أن ينوّع في إيقاعه الداخلي، وأن يعتمد بكثرة على التكرار الذي يهب القصيدة تنوعا موسيقيا ناتجا بالأساس عن تكرار نفس الحروف، الشيء الذي يخلق تموّجات إيقاعية مطربة.
إن الناظر في القصيدة ليصل إلى خلاصة مفادها أن الشاعر جدد فيها إيقاعيا؛ حيث بناها على نظام الأسطر، ناظما إياها على نظام التفعيلة، منوعا في القوافي وأحرف الروي، وعليه لم يقتصر التحديث في القصيدة على جانب المضمون بل شمل الإيقاع بنوعيه.
وإذا انتقلنا ناحية الصور الشعرية وجدنا الشاعر يكثر من توظيفها لوعيه بأهميتها ووظيفتها، والقصيدة في أصلها صورة مركبة من صور جزئية، ومحكومة بتيمتي الموت والحياة، وترتبط صور القصيدة تارة بسربروس، وأخرى بتموز، وثالثة بعشتار، وتارة رابعة بالعراق ، ومن هذه الصور " في بابل الحزينة "، فالملاحظ أن الشاعر يسند صفة الحزن إلى بابل مما يحدث فجـوة دلالية وتنافـرا واضحا بين المسند "الحزينة" والمسند إليه "بابل" ، وهو انزياح دلالي ساقه الشاعر ليظهر حجم الخراب والدمار الذي لحق ببابل، حتى إننا نتصورها امرأة عليها قسمات الحزن بادية، وإضافة إلى الانزياح نجد التشبيه في قوله " عيناه نيزكان في الظلام "، حيث شبه عيني سربروس بنيزكين في الظلام، ووجه الشبه شدة اللمعان وإثارة الرعب، ولا يخفى ما لهذه الصورة من وظيفة في إبراز فظاعة وقبح ووحشية هذا المخلوق الأسطوري البشع، وتحضر الكناية بشكل مكثف في السطر السابع والعشرين، في قوله: (دم ينز، أو حبال، أو حفر)؛ فالدم كناية عن القتل، والحبل كناية عن الشنق، والحفر كناية عن المقابر، وإلى جانب هذه الصور نجد توظيف الرمز، إذ إن سربروس يرمز إلى الشر والعقم والموت والخراب، وتموز يرمز للخصب والحياة والضياء والخير والمستقبل، أما القمح والثمر فهما رمزان للخصب والخير.
نلحظ مما سبق أن مجمل الصور الشعرية، باختلاف أنواعها، أدت وظيفة تعبيرية وأخرى إيحائية، حيث صورت لنا ما يعانيه العراق من آلام وويلات، ونقلت صورة قاتمة عن ما يحدث فيه، كما أسهمت في تنامي دلالات للنص وإغنائه معنويا وإعطائه بعدا تخييليا عميق الغور.
وقد اتسمت لغة النص بالشعرية والفنية واصطبغت بصبغة الجمالية، ويعود ذلك أساسا إلى القدر الكبير من الانزياحات التي توزّعت على جسد القصيدة وخريطتها الجمالية، الأمر الذي ارتقى بلغة النص من النثرية والتقريرية إلى الدرجات العلى من الشعرية، وارتباطا بشعرية اللغة يزخر النص بالإيحاء؛ فمثلا بوحي لفظ نيزكان بالرعب، كما توحي عبارة " يمص عينيه " بالوحشية، فيما توحي عبارة " ينثر الورود والشقيق " بعودة الحياة والانبعاث.
وقد تشكل عالم القصيدة من أسطورتين هما أسطورة الكلب سربروس وأسطورة تموز عشتار، وقد استلهم الشاعر هاتين الأسطورتين ليعبر عن واقعين: واقع الدمار والخراب الذي يمثله سربروس، وواقع الحياة والخصب الذي يمثله تموز وعشتار وتكمن وظيفة الأسطورتين أساسا في التعبير عن واقع العراق بطريقة رمزية غير مباشرة، وهكذا وجدنا أنّ الشاعر يحوّل بنية الواقع إلى عالم أسطوري تتصارع فيه قوى أسطورية خارقة، ومما ينبغي الإشارة إليه أنّه انزاح عن الأسطورة الأصلية ليكسبها معنىً جديدا، حيث إنه أدخل بعض التحوير على أسطورة سربروس وأسطورة تموز ليجعلهما معبّرتين عن واقع العراق؛ ففي "أسطورة سربروس" الأصلية ينبش سربروس التراب عن "برسفون" لا عن تموز كما في القصيدة:
"لينبش التراب عن إلهنا الدفين"
أما في توظيف أسطورة عشتار فقد أدخل بعض التفاصيل من أسطورة "إيزيس وأوزوريس" الفرعونية، حيث إن عشتار لم تسر في السهول والوهاد والدروب وإنما التي سارت هي إيزيس بحثا عن أوزوريس وليس عن تموز، ولعل السبب في الانزياح عن الأسطورة الأصلية يعود، في الأساس، إلى الرغبة في أن يجعلها معبرة عن التجربة والواقع، وهنا تظهر مهارة الشاعر ومعرفته بالأسطورة وتحيينها حسب الدلالة والمراد.
وفيما يخص أساليب القصيدة، زواج الشاعر بين الأسلوب الخبري ونظيره الإنشائي، وقد اعتمد على الأسلوب الخبري في سياق حديثه عن الدمار والخراب الذي خلفه سربروس، وهو ما جعله يركّز على السرد والوصف، ومن نماذجه قوله: " يمزق الصغار بالنيوب، يشرب القلوب، يمزق النعال "، أما الأسلوب الإنشائي فقد ورد أقل من نظيره الخبر ممثلا في ثلاثة أنواع، إذ نجد الاستفهام في قوله : "أكانت الحقول تزهر ؟" الذي خرج عن معناه الحقيقي ليفيد التحسر والإنكار والحنين إلى ماضٍ خِصْبٍ، والتمني كما في قوله: " أوّاه لو يفيق، لو يفجر الرعود" الذي يعبّر عن رغبة دفينة وأمل عميق في أن يعود الخصب والخير للعراق، ناهيك عن أسلوب الأمر "ليعو" الذي خرج عن معناه الحقيقي ليفيد الدعوة إلى مواصلة العواء والاستمرار فيه أملا في تحقق الأمل والانبعاث، وهنا تكمن المفارقة الصارخة، حيث يتحول الموت إلى سبب في الحياة.
تضمنت القصيدة ثلاثة أزمنة ولكل زمن رموزه التي تدل عليه، فالزمن الماضي يدل على الخصب والحياة، ومن الرموز الدالة عليه نجد: القمح والثمر والحقول، أما الزمن الحاضر فيرتبط بالدمار والخراب والعقم والجوع ومن الرموز المرتبطة به نذكر : سربروس، والدم والحبال والصغر. أما الزمن المستقبلي فيدل على الحياة والبعث، ومن الرموز المحيلة عليه نذكر: تموز، عشتار، الحبوب، الضياء، وقد مثل هذه الأزمنةَ نوعان من الأفعال: أفعال تدل على الفناء والتمزيق وترتبط أساسا بسربروس "يمزق، ينبش، يقضم"، وأفعال تحيل على الجمع والإنتاج وترتبط أساسا بعشتار" تلقط، تلمه، تجمعت، تململت، سيولد "، وتكشف هاته الأفعال بنوعيها عن الصراع الدموي الأزلي بين الخير والشر، والموت والحياة، الذي عبر عنه الشاعر باستلهام جو أسطوري مفعم بالدلالات، وما دامت الأفعال تكثر في النص فقط أعطته صبغة سردية حكائية مما جعل النص عبارة عن قصة أو حكاية.
وإذا انتقلنا ناحية البنية، وجدنا أن النص قد بُني بناء حكائيا، وتتمثل عناصره في البطل المأساوي تموز، والعامل المعاكس الذي جسّده "سربروس"، والمساعد "عشتار والراوي" الذي هو الشاعر، ويمكن أن نكشف عن حبكة النص فيما يلي:
البداية : ظهور سربروس في بابل وإحداثه الخراب فيها؛
العقدة : ظهور عشتار ومحاولتها لملمة أشلاء تموز؛
النهاية : انتظار ولادة الضياء. وهكذا جاءت نهاية الحكاية سعيدة لأنها تبشر بعودة الضياء، ومفتوحة كذلك لأنها لم تحدد المقصود بالضياء بل تركته مفتوحا ليتخيله المتلقي، وانطلاقا مما سبق نصل إلى أن النص بُني بناءً دراميا؛ أي إنه يتنامى ويتطور في أحداثه ودلالاته.
عبر الشاعر في قصيدته عن واقع العراق في فترة حكم عبد الكريم قاسم، ونقل حجم ما كان يعانيه في تلك الفترة من دمار وجوع وعقم، ولم يعبر الشاعر عن ذلك بطريقة مباشرة بل اختار أن يعبر عن بنية الواقع من خلال توظيفه للأساطير والرموز وهذا ما يميز قصيدة الرؤيا، وتتمثل مقصدية الشاعر في تأكيد تحدي الموت وانتصار الحياة وهو ما عبر عنه بولادة الضياء، وللتعبير عن هذه المقصدية وظف لغة شعرية ذات كثافة رمزية، ومعجما من حقلين يكشف عن الصراع بين الموت والحياة، إضافة إلى توظيفه أسطورتين ومجموعة من الصور الشعرية، وانطلاقا مما سبق تحليله نؤكد انتماء القصيدة إلى المرحلة القومية\التموزية من حياة الشاعر الفنية.
لقد استطاع الشاعر أن يعيد تشكيل الواقع الحقيقي عبر الرمز والأسطورة متسلّحا بعمق الرؤيا وبعد الرؤية في اللغة والإيقاع والصورة، وهو ما جعله ينزاح عن القوالب الشكلية المعهودة في التعبير، دون أن يقع في التجريد المبهِم، بل لقد ظّل محافظا على تلك الشّعرة التي تربط شعره بالواقع وتحولاته، وهو ما ضمن لشعره الالتصاق بالوجدان والذاكرة.
سر بروس في بابل
ليعو سربروس في الدروب
في بابل الحزينة المهدمة
ويملا الفضاء زمزمه
يمزق الصغار بالنيوب، يقضم العظام
ويشرب القلوب
عيناه نيزكان في الظلام
وشدقه الرهيب موجتان من مدى
تخبئ الرذي
أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراق
يوج في العراق
ليعو سربروس في الدروب
وينبش التراب عن إلهنا الدفين
تموزنا الطعين
يأكله، يمص عينيه إلى القرار
يقصم صلبة القوي، يحطم الحرار
بين يديه، ينثر الورود والشقيق
أواه لو يفيق
إلهنا الفتي، لو يبرعم الحقول
لو ينثر البيادر النضار في السهول
لو ينتضي الحسام،لو يفجر الرعود والبروق والمطر
ويطلق السيول من يديه ىه لو يؤوب
ونحن إذ نبض من مغاور السنين
ترى العراق، يسأل الصغار في قراه
ما القمح؟ ما الثمر؟
ما الماء؟ مال المهود؟ ما الالاه؟ مالبشر؟
فكل ما نراه
دم ينز أو حبال فيه، أو حفر
أكانت الحياة
أحب أن تعاش، والصغار آمنين؟
أكانت الحقول تزهر؟
أكانت السماء تمطر؟
أكانت النساء والرجال مؤمنين
بأن في السماء قوة تدبر
تحس، تسمع الشكاة تبصر
ترق، ترحم الضعاف تغفر الذنوب؟
أكانت القلوب
أرق، والنفوس بالصفاء تقطر؟
وأقبلت إلهة الحصاد
رفيقه الزهور والمياه والطيوب
عشتار ربة الشمال والجنوب
تسير في السهول والوهاد
تسير في الدروب
تلقط منها لحم تموز إذا انتشر
تلمه في سلة كأنه الثمر
لكن سربروس بابل- الججيم
يخب في الدروب خلفها ويركض
بمزق النعال في أقدامها، يعضعض
سيقانها اللدان، ينهش اليدين أو يمزق الرداء
يلوث الوشاح بالدم القديم
ويمزح الدم الجديد بالعواء
ليعو سربروس في الدروب
لينهش الإلهة الحزينة، الالهة المروعة
فإن من دمائها ستخصب الحبوب
سينبت الاله، فالشرائح الموزعة
تجمعت تململت سبولد الضياء
من رحم ينز بالدماء
ليعو سربروس في الدروب
في بابل الحزينة المهدمة
ويملا الفضاء زمزمه
يمزق الصغار بالنيوب، يقضم العظام
ويشرب القلوب
عيناه نيزكان في الظلام
وشدقه الرهيب موجتان من مدى
تخبئ الرذي
أشداقه الرهيبة الثلاثة احتراق
يوج في العراق
ليعو سربروس في الدروب
وينبش التراب عن إلهنا الدفين
تموزنا الطعين
يأكله، يمص عينيه إلى القرار
يقصم صلبة القوي، يحطم الحرار
بين يديه، ينثر الورود والشقيق
أواه لو يفيق
إلهنا الفتي، لو يبرعم الحقول
لو ينثر البيادر النضار في السهول
لو ينتضي الحسام،لو يفجر الرعود والبروق والمطر
ويطلق السيول من يديه ىه لو يؤوب
ونحن إذ نبض من مغاور السنين
ترى العراق، يسأل الصغار في قراه
ما القمح؟ ما الثمر؟
ما الماء؟ مال المهود؟ ما الالاه؟ مالبشر؟
فكل ما نراه
دم ينز أو حبال فيه، أو حفر
أكانت الحياة
أحب أن تعاش، والصغار آمنين؟
أكانت الحقول تزهر؟
أكانت السماء تمطر؟
أكانت النساء والرجال مؤمنين
بأن في السماء قوة تدبر
تحس، تسمع الشكاة تبصر
ترق، ترحم الضعاف تغفر الذنوب؟
أكانت القلوب
أرق، والنفوس بالصفاء تقطر؟
وأقبلت إلهة الحصاد
رفيقه الزهور والمياه والطيوب
عشتار ربة الشمال والجنوب
تسير في السهول والوهاد
تسير في الدروب
تلقط منها لحم تموز إذا انتشر
تلمه في سلة كأنه الثمر
لكن سربروس بابل- الججيم
يخب في الدروب خلفها ويركض
بمزق النعال في أقدامها، يعضعض
سيقانها اللدان، ينهش اليدين أو يمزق الرداء
يلوث الوشاح بالدم القديم
ويمزح الدم الجديد بالعواء
ليعو سربروس في الدروب
لينهش الإلهة الحزينة، الالهة المروعة
فإن من دمائها ستخصب الحبوب
سينبت الاله، فالشرائح الموزعة
تجمعت تململت سبولد الضياء
من رحم ينز بالدماء
(بدر شاكر السياب: أنشودة المطر. دار العودة، بيروت، 1971، مج 1، ص: 482 وما بعدها بتصرّف)
ذ. سعيد بكور
0 التعليقات:
إرسال تعليق